لا أحد يعدِل البحر حُبً وصدقً

لابد لي من زيارته بين الفترة والاخرى  فصوت امواجه يبعث على الراحة في داخلي كسنفونية تُعزَف في ليلة مقمرة ورذاذه الطائر يتغلغل في ارجاء جسدي فيغسل الهموم المبعثرة, أعشق هدير أمواجه وأقف حائراً امام بديع جماله وتَراني في كل لقاء لا أكف عن سؤاله كيف صرت مهوى قلوب الحائرين يا بحر ؟

                           لا أحد يعدِل البحر حُبً وصدقً

ربما لأنه المخلوق الوحيد الذي يشعرني بالأمان وانا ابوح له بكل ما في صدري, كيف لا وهو الذي جمع بين المتضادات في سلوكه, ففي حضرته أشعر بانه خيرُ صاحب وجليس, يُلقي الي بسمعه يخترق حنانه الطاغي اخاديد افكاري حتى يغدو ممسكً بتلابيب عقلي وقلبي معاً وما ان تحين ساعة الرحيل أنصرف عنه وكأنه شخص عابر في حياتي فلا هو الذي يتمسك بي ولا أنا الذي اتحرق الماً لفراقه, يصف ذلك الشعور الكاتب إحسان عبد القدوس بقوله (والراحة الكبرى هي أن تلقي بقصتك في أسماع غريب، فكأنك بذلك تلقين بها في البحر، فبعده عنك يطمئنك بأنه لن يستغل هذه القصة يوماً فيما يؤذيك) هو مستودع الاسرار ومهبط الحكايات ومستقر أنين العاشقين, لا يمل من كثرة الواردين عليه بأثقالهم وهمومهم , ينضح عليهم من نسيم هواءه العليل فينساب بين اروقة اجسادهم معلناً بذلك ان لهم الامان.

كثيرة هي الصفات التي احبها في البحر فعلى سبيل المثال هل رأيتم في يوم من الايام شاطئ يخلو من الأمواج  والحركة؟ إنها طبيعة الحياة وسنتها المتجسدة في ديمومة الحركة والنشاط ونبذ الكسل والاحباط, أقف امامه فتداعب تلك المياه اطرافي ثم تهمس لي قائلة: ما الجدوى من حياة الانسان على سطح هذه الأرض وهو مشلول الأفكار وحبيس الامنيات ليس له من دنياه سوى الراحة والأحلام, لا يعرف من أين يبدأ وكيف يسير ومتى ينتهي, تنهال عليه الواجبات من كل حدب وصوب في يومه وليلته فلا تنتظر منه ان يحرك ساكناً يعشق التسويف ويهوى التأجيل ويُلقي باللوم على محيطه الذي يعيش فيه.

أراه أمامي كيف يلفِظ كل شائبة علقت في جوفة ثم يطرحها خارجاً فأتعجب! كيف يستطيع ان يعيش بعض اولئك البشر بتلك النوايا العاطلة, يحملون في صدورهم كل انواع الصفات المنافية لطبيعة الحياة الرغيدة تأخذهم خُطاهم الى طريق غير طريق الحب والسلام والوئام, وبماذا يشعر من تغشّى على قلبه قطران القبيح من الصفات حتى يصبح غير قادر على التعايش مع غيره دون ان يكدر صفو تلك العلاقات. اعتقد ان سراً من اسرار جمال البحر ورضوخ الانسان له هو ذلك النقاء الداخلي الذي يتحلى به والذي يرتسم على محياه ساعة استقباله له.

في مجتمعاتنا قل ما تجد من يمارس ثقافة الاستماع والانصات الى المتكلم بكل اهتمام وهدوء, أشعر في بعض الاحيان انني بحاجة الى من يسمعني فقط دون ان يرد على بأي كلمة كانت مهما كان نوع الموضوع ومدى اقتناع المستمع به ام لا, فقط اريد ان ازيح تلك الكلمات عن كاهلي وعندها لا أجد امامي سوى البحر قِبلة ووجهة, في حديثي اليه لا أفكر كثيرا بما سأقول وهل سيكون مصدرا لإزعاجه ام لا في حديثي اليه لا ارى تقلبات قسمات الوجوه حين يبدأ الملل بالتسلل اليه في حديثي معه لا أشعر ان من هو امامي يتصنع الاصغاء وبداخله مئات الحروف التي تُرمى سهامً على ناصيتي.

نعم أعلم انها مجرد مياه ولن تصلها تلك الكلمات المنبعثة من أعماقي والمليئة عشقاً وهياماً بها لكني احببت ان اكتب عن ماذا يعني البحر بالنسبة لي هو التجرد عن البشر في لحظة من اللحظات هو الابتعاد عن الادعاءات وحياة الزيف و التصنع هو الذي لن استطيع وصفة مهما بلغت حروفي السابقة أوجها وفاحت بالعطر رائحتها.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ما هو الحل للسيطرة على المشاكل الزوجية

ما بين التسويف والمماطلة تضيع الكثير من الالتزامات